فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهأنذا مفسدهم مع الأرض فاتخذ لك أنت تابوتًا مربعًا من خشب الساج- وفي نسخة: الشمشار- وأجعل في التابوت علالي.
واطلها بالقار من داخلها وخارجها، وليكن طول الفلك ثلاثمائة ذراع.
وعرضه خمسين ذراعًا، وسمكه ثلاثين ذراعًا، واجعل في التابوت كوى وليكن عرضها من أعلاها ذراعًا واحدًا، واجعل باب الفلك في جانبه، واجعل فيه منازل أسفل وأوساط وعلالي.
وها أنذا محدر ماء الطوفان على الأرض لأفسد به كل ذي لحم فيه نسمة الحياة من تحت السماء، ويبيد كل ما على الأرض، وأثبت عهدي بيني وبينك.
وتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من ذوي اللحوم من كل صنف اثنان لتحيى معك، ولتكن ذكورًا وإناثًا، من كل الطيور كأجناسها.
ومن الأنعام لأصنافها، ومن كل الهوام التي تدب على الأرض لجواهرها، اثنين اثنين أدخل معك من كلها لتستحييها ذكرًا وانثى، واجعل من كل ما يؤكل فاخزنه معك، وليكن مأكلك ومأكلها؛ فصنع نوح كل شيء كما أمر الله ثم قال الله لنوح: ادخل أنت وكل أهل بيتك إلى التابوت لأني إياك وجدت بارًا تقيًا في هذا الحقب، ومن كل الأنعام الزكية أدخل معك سبعة سبعة من الذكور والإناث، ومن الأنعام التي ليست بزكية أدخل معك اثنين ذكورًا وإناثًا.
ومن الطير الزكي سبعة سبعة ذكورًا وإناثًا، ومن الطير الذي ليس بزكي اثنين اثنين ذكورًا وإناثًا، ليحي منها نسل على وجه الأرض، لأني من الآن إلى سبعة أيام أهبط القطر على وجه الأرض أربعين يومًا ولياليها، وأبيد كل ما خلقت على وجه الأرض؛ فصنع نوح كما أمره الرب الإله.
فلما كان بعد بعد ذلك بسبعة ايام نزلت مياه الطوفان، تفجرت مياه الغمر وتفتحت مثاعب السماء.
وأقبلت الأمطار على وجه الأرض أربعين نهارًا وأربعين ليلة، وفي هذا اليوم دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح ونساء بنيه الثلاث معه الفلك هم وجميع السباع لأجناسها وجميع الدواب لأصنافها وكل حشرة تدب على الأرض بجواهرها وجميع الطيور لأجناسها، ودخل مع نوح التابوت منكل عصفور ومن كل ذي جناحين اثنان اثنان، ومن كل ذي لحم فيه روح الحياة وكل شيء دخل من ذوي اللحوم دخلوا ذكورًا وإناثًا كما أمر الله نوحًا، ثم أغلق الله الرب الباب عليه، وكان الطوفان على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة، وكثرت المياه حتى احتملت التابوت فارتفع عن الأرض، وعزرت المياه وكثرت على الأرض جدًا وجعل التابوت يسير على وجه الماء واشتدت المياه على وجه الأرض جدًا جدًا.
وتوارت جميع الجبال العالية الشاهقة التي تحت السماء، وارتفعت المياة من فوق كل جبل خمسة عشر ذراعًا، وباد كل ذي لحم على الأرض من الطيور أجمع والسباع والدواب وجميع الحشرة التي تدب على الأرض وجميع الناس والبهائم، ومات كل شيء كان فيه نسمة الحياة مما في اليبس.
وبقي نوح ومن معه في الفلك، واشتدت المياه على الأرض مائة وخمسين يومًا؛ وإن الله ذكر نوحًا وكل السباع والدواب وجميع الطيور التي معه في التابوت.
فأهاج الله ريحًا على وجه الأرض فسكنت المياه والأمطار.
واشتدت ينابيع الغمر وميازيب وغاضت المياه بعد مائة وخمسين يومًا، وسكن التابوت ووقف في الشهر السابع لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر على جبال قودي وجعلت المياه تنصرف وتنتقص إلى الشهر العاشر، وظهرت رؤوس الجبال في أول يوم الشهر العاشر، فلما كان بعد ذلك بأربعين يومًا فتح نوح الكوة التي عملها في التابوت فأرسل الغراب، فخرج الغراب من عنده فلم يعد إليه حتى يبست المياه عن وجه الأرض، ثم أرسل الحمامة من بعده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة موضعًا لموطئ رجليها فرجعت إلى التابوت لأن المياه كانت بعد على وجه الأرض، فمد يده فأخذها وأدخلها إليه وانتظر سبعة أيام أخرى، ثم عاد فأرسل الحمامة فعادت عند المساء وفي منقارها ورقة زيتون، فعلم أن الماء قد غاض عن وجه الأرض فصبر أيضًا سبعة أيام أخر، ثم أرسل الحمامة فلم تعد إليه أيضًا، ففتح نوح باب الفلك فرأى فإذا وجه الأرض قد ظهر وجفت الأرض.
فكلم الرب الإله نوحًا وقال له: اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل السباع التي معك من كل ذي لحم والطيور والدواب، وأخرج كل الهوام التي تدب على الأرض معك، ولتتولد وتنمو في الأرض وتكثر وتزداد على الأرض.
فخرج نوح ومن ذكر وبنى للرب مذبحًا وأخذ من جميع الدواب والطيور الزكية فأصعد منها على المذبح قربانًا للرب الإله، فقال الرب الإله: لا أعود ألعن الأرض أبدًا من أجل أعمال الناس لأن هوى قلب الإنسان وحقده رديء منذ صباه ولا أعود أيضًا أبيد كل حي كما فعلت، ومن الآن جميع أيام الأرض يكون فيها الزرع والحصاد والبرد والحر والقيظ والشتاء، فبارك الله على نوح وبنيه وقال لهم: انموا واكثروا واملؤوا الأرض، وليغش رعبكم وخوفكم جميع السباع وبهائم الأرض وكل طيور السماء وكل دابة تدب على الأرض، وجميع حيتان البحور تكون تحت أيديكم، وكل الدواب الطاهرة الحية تكون لأكلكم، وقد جعلت الأشياء كلها حلالًا لكم مثل عشب البرية خضرها، وأما المخنوق الذي دمه فيه فلا تأكلوه فإن دمع نفسه، وأما دماؤكم من أنفسكم فأطلبها بالنهي من يد جميع الحيوان ومن يد جميع الناس، أي إنسان قتل أخاه طالبته بدمه، ومن سفك دم الإنسان سفك دمه لأن الله خلق آدم بصورته، وأنتم فانموا واكثروا وولدوا في الأرض وأكثروا فيها؛ وقال الله لنوح ولبنيه معه: هأنذا مثبت عهدي بيني وبينكم ومع أنسالكم من بعدهم ومع كل نفس حية منكم، ومع الطيور والدواب ومع كل سباع الأرض جميع الذين خرجوا من الفلك.
وأثبت عهدي بيني وبينكم فلا يبيد كل ذي لحم أيضًا بماء الطوفان ولا يهبط الطوفان أيضًا ليفسد جميع الأرض، قال الله لنوح: هذه علامة لعهدي الذي أجعله بيني وبينكم وبين كل نفس حية معكم في جميع أحقاب العالم، قد أظهرت قوسي في السحاب فهي أمارة ذكر العهد الذي بيني وبينك وبين أهل الأرض، فإذا أنشأت السحاب في الأرض وأظهرت قوس السحاب فاذكروا العهد الذي بيني وبينكم، وكان بنو نوح الذين خرجوا معه من التابوت سام وحام ويافث، وحاتم يكنى أبا كنعان، هؤلاء الثلاثة ثم بنو نوح، وتفرق الناس من هؤلاء في الأرض كلها؛ ثم ذكر أن نوحًا عليه السلام نام فرأى حام عريه فأظهر ذلك لأخويه، فتناول سام ويافث رداء فألقياه على أكتافهما ثم سعيا على أعقابهما مدبرين فواريا عرى أبيهما، فلما علم نوح ما صنع ابنه الأصغر دعا عليه أن يكون عبدًا لأخويه، وكانت جميع أيام حياة نوح تسعمائة سنة وخمسين سنة، ثم توفي عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ ثم ذكر أن الناس بعده أرادوا أن يبنوا صرحًا لاحقًا بالسماء، واجتمع جميعهم على ذلك لأن لغتهم كانت واحدة ورأيهم واحد ففرق الله ألسنتهم وفرقهم من هنالك على وجه الأرض ولم يبنوا القرية التي هموا بها، ولذلك سميت بابل وبوبال معناه بالعبراني: الشتات، وما في تفسير البغوي وغيره من أن عوج ابن عوق- بضمهما كما في القاموس- كان في زمن نوح وسلم من الطوفان، وأن الماء لم يجاوز ركبتيه ونحو هذا كذب بحت منابذ لقوله تعالى: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [هود: 27] وقوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} وقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] ونحوها، فإن كل من ذكر ذلك ذكر أن موسى عليه السلام قتله كافرًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اعلم أن قوله: {رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل كان ابنًا له أم لا فلا نعيده، ثم إنه تعالى ذكر أنه قال: {يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه كان ابنًا له وجب حمل قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} على أحد وجهين: أحدهما: أن يكون المراد أنه ليس من أهل دينك.
والثاني: المراد أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك والقولان متقاربان.
المسألة الثانية:
هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب فإن في هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ولكن لما انتفت قرابة الدين لا جرم نفاه الله تعالى بأبلغ الألفاظ وهو قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} قرأ الكسائي: {عمل} على صيغة الفعل الماضي، وغير بالنصب، والمعنى: إن ابنك عمل عملًا غير صالح يعني أشرك وكذب، وكلمة: {غَيْرِ} نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، وقرأ الباقون: عمل بالرفع والتنوين، وفيه وجهان: الأول: أن الضمير في قوله إنه عائد إلى السؤال، يعني أن هذا السؤال عمل وهو قوله: {إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} غير صالح، لأن طلب نجاة الكافر بعد أن سبق الحكم، الجزم بأنه لا ينجي أحدًا منهم سؤال باطل.
الثاني: أن يكون هذا الضمير عائدًا إلى الابن، وعلى هذا التقدير ففي وصفه بكونه عملًا غير صالح وجوه: الأول: أن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له: إنه علم وكرم وجود، فكذا هاهنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه في نفسه عمل باطل.
الثاني: أن يكون المراد أنه ذو عمل باطل، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
الثالث: قال بعضهم معنى قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} أي إنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعًا.
ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام: {فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه:
الوجه الأول: أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة، وهذا يقتضي عود الضمير في قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال، فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر.
ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا، لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير، فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال، فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح، أي قولك: إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح، وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنبًا ومعصية.
الوجه الثاني: أن قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنى} نهي له عن السؤال، والمذكور السابق هو قوله: {إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنبًا ومعصية.
الوجه الثالث: أن قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم، والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169].
الوجه الرابع: أن قوله تعالى: {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} يدل على أن ذلك السؤال كان محض الجهل.
وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وأيضًا جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن.
قال تعالى: {يَعْمَلُونَ السوء بجهالة} [النساء: 17] وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67].
الوجه الخامس: أن نوحًا عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال: {إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الخاسرين} واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنبًا.
الوجه السادس: في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحًا نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق، والآية المتقدمة وهي قوله: {ونادى نُوحٌ ابنه} وقال: {يا بنى اركب مَّعَنَا} تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة.
فنقول: إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقًا على طلبه من الولد أو كان بالعكس، والأول باطل لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقًا على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق، وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب، وبعد هذا كيف قال له: {يا بنى اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} وأما إن قلنا: إن هذا الطلب من الابن كان متقدمًا فكان قد سمع من الابن قوله: {سَاوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} وظهر بذلك كفره، فكيف طلب من الله تخليصه، وأيضًا أنه تعالى أخبر أن نوحًا لما طلب ذلك منه وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين، فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام.
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي، وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار، ولا يدل على سابقة الذنب كما قال: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره} [النصر: 1 3] ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجًا ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل.
المسألة الثانية:
قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء: {تَسْأَلْنى} وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء، وقرأ أبو عمرو بتخفيف النون وكسرها وحذف الياء: {تسألن} أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل، وأما ترك التشديد والحذف فللتخيف من غير إخلال.
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال: {رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الخاسرين} والمعنى أنه تعالى لما قال له: {فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف، ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك، فلهذا بدأ أولًا بقوله: {إِنّى أَعُوذُ بِكَ}.
واعلم أن قوله: {إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} إخبار عما في المستقبل، أي لا أعود إلى هذا العمل، ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى، فقال: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الخاسرين} وحقيقة التوبة تقتضي أمرين: أحدهما: في المستقبل، وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله: {إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} والثاني: في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الخاسرين} ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام.
فنقول: إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين، وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلومًا، وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفيًا وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمنًا، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافرًا، بل على الوجوه الصحيحة، فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال: {سَاوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق، وقول نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند ابنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح، وهذا أيضًا لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافرًا فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن، فطلب من الله تعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة، وإما أن يحفظه على قلة جبل، فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه، فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره، بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن، مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، لأنه كان كافرًا فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد، كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد، فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد، والله أعلم.